بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد
فمن الفقه في أصول دين الإسلام تحريم نسبة الشر إلى ربنا الله سبحانه وتعالى ؛ فالله تعالى وتقدس لا يخلق شرا محضا؛ بل الشر كله في مخلوقاته ومفعولاته وهذا الشر هو شر نسبي ليس شرًا محضًا، وهذا يرجع إلى اقتضاء حكمته سبحانه وتعالى،فمن أسماء ربنا { الحكيم} فما خلق شيئا عبثا،بل لحكم قد يدرك بعضها عقلاء الخلق وقد لايعلمونها والعلم صفة من صفات الله العلى والعليم اسم من أسمائه الحسنى سبحانه فليس للخلق علم الا ماتفضل الله برحمته على خلقه { ..وعلم آدم الأسماء كلها } { فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ ۚ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ}فهو العليم الحكيم .
والمخلوقات فيها شر جزئي وهو شر لبعض الخلق، وأما الشر الكلي، أو الشر المطلق؛ فالله تعالى ينزه عنه تعالى ربنا وتقدس .
وفعل ربنا الله سبحانه وتعالى وفق حكمته وقضائه وقدره ؛ ففعله كله خير، ليس فيه شر، والشر لا يضاف إلى الله اسمًا، ولا صفةً ولا فعلا، فالشر لا يكون في أسمائه فكلها حسنى، ولا في صفاته فكلها صفات كمال وحمد، ولا في أفعاله فكلها أفعال عدل وحكمة، وإنما يكون في مفعولاته، أي: مخلوقاته،
ومن تمام الأدب وكماله ؛ وهذا ديدن المسلم وعقيدته أن لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى يدل على ذلك قوله تعالى :{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } فانظر ادب رسول الله ابراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم مع ربه عز وجل حيث نسب الخلق والهداية والإطعام والسقاية والشفاء والإماتة والإحياء والمغفرة إلى ربه عز وجل أما المرض فنسبه إلى نفسه فقال : { وإذا مرضتُ} ولم يقل وإذا أمرضني .
وانظر ادب النبي الكريم يوسف عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى وتقدس : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
فإنه صلى الله عليه وسلم نسب وقوع الرؤيا حقا وخروجه من السجن ومجيء أهله إليه إلى ربه عز وجل ، أما ما حدث بينه وبين إخوته فإنه نسبه إلى الشيطان ولم ينسبه إلى ربه عز وجل تأدبا .
وانظر قول الخضر عليه الصلاة و السلام - [ من الأنبياء على الصحيح من أقوال العلماء لدلالة القرآن الكريم على نبوته وليس هنا محل بسط لهذه المسألة ] - قال في خرق السفينة : { فأردُت أن أعيبها } بينما في سبب إقامته للجدار قال : { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } وذلك لأن في خرق السفينة عيبا لا يليق أن ينسب إلى الله عز وجل حتى وإن كان مراد الفعل خيرا .
وفي قوله تعالى وتقدس:
:{ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا }
فانظر تأدب الجن حينما أضافوا الخير إلى الله تعالى، والشر حذفوا فاعله .
ثم أعد النظر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( والخيرُ كلُّه في يدَيْكَ والشَّرُّ ليس إليكَ ) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
وهذا من كمال التأدب وتمامه
بل هو الحق الذي يجب على كل مسلم اعتقاده .
فإذا علم العبد إن كل شئ من عندالله وإن ما عند الله و ماقضاه الله ربه وقدره عليه خيرا له فناتج ذلك الإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره والذي هو ركن من أركان الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
و المؤدي هذا الإيمان إلى زيادة الطاعة واجتناب المعاصي .
والصبر أنواع؛ فمنها صبر عن محارم الله بإجتناب مانهى الله عنه وصبر على المصايب والبلاء وصبر على طاعة الله . فإذا رزق الله العبد ذلك كله فهذا من فضل الله ورحمته لا راد لذلك .
فالطاعة من فضله والمعصية من أسباب تفريط العبد وأسباب أخرى تساهل بها، حتى وقعت المعصية .
فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مخيرا ومسيرا أو ميسرا ؛ " الإنسان له وصفان: مسير ومخير، مسير ليس له خروج عن قدر الله عز وجل، الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة كما جاء به الحديث الشريف، والقدر أمر ثابت وهو من أصول الإيمان فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال في جوابه: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان والله قدر الأشياء وكتبها سبحانه قبل أن يخلق الناس، خلق العبد وقدر رزقه وأجله وشقاوته وسعادته، هذا أمر معلوم وقد أجمع عليه أهل السنة والجماعة ، فهو مسير من هذه الحيثية، من جهة أنه لا يخرج عن قدر الله ولكنه ميسر أيضاً لما خلق له، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما أخبرهم النبي ﷺ :(أنه ما من الناس أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار) فقالوا: يا رسول الله ففيم العمل؟! قال:( اعملوا فكل ميسر لما خلق له فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة، ثم تلا قوله سبحانه: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } ) ؛ فبين عليه الصلاة والسلام أن جميع الأمور مقدرة، وأن أعمال العبد وشقاوته وسعادته وسائر شئونه قد مضى به علم الله وقد كتبه الله سبحانه وتعالى، فليس للعباد خروج عما كتب في اللوح المحفوظ وعما قدره الله عليهم سبحانه وتعالى، وهو من هذه الحيثية مسير وميسر أيضاً.
أما من جهة التخيير فالله جل وعلا أعطاه عقلاً وسمعاً وبصراً وأدوات، فهو بها يعرف ما يضره وما ينفعه وما يناسبه وما لا يناسبه، فإذا أتى الطاعة فقد أتاها عن اختيار، وإذا أتى المعصية فقد أتاها عن اختيار، فليس بمجبور ولا مكره، بل له عقل ينظر به ويميز به بين الضار والنافع، والخير والشر، والصالح والطالح، وله سمع يسمع، وله بصر يبصر به، وله أدوات من يد يأخذ بها ويعطي، ورجل يسير عليها إلى غير ذلك، فهو بهذا مخير، هو المصلي وهو الصائم، وهو الزاني والسارق، وهو الذاكر والغافل، كل هذا من أعماله فأعماله تنسب إليه وله اختيار وله إرادة كما قال عز وجل: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } {.. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } ..{ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَايَصْنَعُونَ} ..{ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {إن الله بما تعملون خبير}،{ إن الله خبير بما تفعلون} فنسب فعلهم إليهم.
قال: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} .. {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} بعدما ذكر ما قبلها في قوله سبحانه: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} الآية، فأفعالهم تنسب إليهم خيرها وشرها، فالعبد هو الصائم وهو الذاكر وهو الغافل وهو العامل وهو المصلي إلى غير ذلك، فيؤجر على طيب عمله الذي أراد به وجه الله، ويأثم على ما فعله من الشر؛ لأنه مختار عامد لهذا الشيء، فإذا فعل ما شرع الله عن إخلاص ومحبة لله آجره الله؛ من صلاة، وصوم، وصدقة، وحج، وأمر بمعروف ونهي عن منكر وغير ذلك، وإذا فعل ما نهى الله عنه من السرقة، والزنا، والقطيعة للرحم، والعقوق، وشهادة الزور وما أشبه ذلك أخذ بذلك أيضاً، وأثم في ذلك، واستحق العقاب؛ لأن هذا من فعله واختياره، ولا يمنع ذلك كونه قد قدر سبق به علم الله لا يمنع، فقد سبق علم الله بكل شيء سبحانه وتعالى، ولكن العبد يختار ويريد وله مشيئة، فإذا شاء المعصية وأرادها وفعلها أخذ بها، وإذا شاء الطاعة وأرادها وفعلها أجر عليها، فهو مخير ومسير وتعبير السنة «ميسر» وهكذا تعبير الكتاب:{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } فالتعبير بميسر أولى من المسير، كما جاءت به السنة، ويقال: مسير كما قال الله جل وعلا: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } فهو يسير عباده أينما شاء سبحانه وتعالى وهو الميسر جل وعلا عبده لما يشاء، وهو سبحانه الذي أعطاه العقل وأعطاه القدرة على الفعل والعمل، فهو من جهة مسير وميسر ولن يخرج عن قدر الله، ومن جهة أخرى هو مخير وله مشيئة وله اختيار وكل هذا واقع، وبهذا قامت عليه الحجة، وانقطعت المعذرة، واستحق الثواب والعقاب على أفعاله الطيبة والخبيثة، فالطيبة له ثوابها والخبيثة عليه وزرها، وبهذا يتضح معنى المسير وميسر ومعنى المخير "[ من كلام الإمام ابن باز رحمه الله من موقعه الرسمي ]
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
--------------------------------------
كتبه : غازي بن عوض العرماني