بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
أما بعد
فقد روي الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أمير المؤمنين الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ).
فتعلم القرآن الكريم من أشرف العلوم واجلها ويشمل هذا التعليم تعلم اتقان لفظ القرآن الكريم مع تدبره معانيه وفهمها
و" علم أن ما عداه - أي القرآن - من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم بين علوم لا ثقة بها،وإنما هى آراء وتقليد، وبين ظنون كاذبة لا تغنى من الحق شيئا، وبين أمور صحيحة لامنفعة للقلب فيها،وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام فى إثباتها، مع قلة نفعها"[إغاثة اللهفان من مصائدالشيطان ( ١ / ٤٤ )].
والعمل بالقرآن الكريم هو المراد فقد "نزل القرآن ليُعمَل به فاتَخَذوا تلاوته عملاً؛ ولهذا كان أهل القرآن هم العاملون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم"[زاد المعاد ( ١ / ٣٢٣)]
إذ إن " تدبُّر الكلام إنما ينُتفَع به إذا فُهِم، قال تعالى : {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وعليهم أن يبلِّغوا الناس البلاغ المبين، والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلَّغه الرسل، والعقل يتضمن العلم والعمل؛ فمن عرف الخير والشر، فلم يتَّبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلاً"[ مجموع الفتاوى( ١٥ / ١٠٨ ) ].
وكان السلف الصالح من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم منهم عثمان بن عفان وعبد الله ابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين :" يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى، حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا العلم والعمل" [ أثر صحيح وهو في مسند الإمام أحمد والبيهقي في الكبرى والطحاوي في شرح مشكل الآثار وابن جرير في تفسيره ] .
وفي الأثر المشهور الذي أخرجه الخطيب عن مالك عن بن عمر رضي الله عنهما قال : "تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة ".
.و " كان الفاضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به"
[ أخلاق أهل القرآن للآجري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما صفحة ( ١٠ )].
وفي سنن سعيد بن منصور رحمه الله( ١ / ١٧٦) و سير أعلام النبلاء ( ٣ / ٣٤٨ ) ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : " قدم على عمرَ رجلٌ، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا. فقلت: والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قال: فزبرني عمر، ثم قال: مه! فانطلقتُ إلى منزلي مكتئباً حزيناً، فقلت: قد كنتُ نزلتُ من هذا بمنزلة، ولا أراني إلا قد سقطتُ من نفسه، فاضطجعت على فراشي، حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، فبينا أنا على ذلك، قيل لي: أجب أمير المؤمنين. فخرجتُ، فإذا هو قائم على الباب ينتظرني، فأخذ بيدي، ثم خلا بي، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفاً؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إنْ كنت أسأتُ، فإني أستغفر الله وأتوب إليه، وأنزلُ حيث أحببت. قال: لتخبرني. قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقُّوا، ومتى ما يحتقُّوا يختصموا، ومتى ما اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا. قال: لله أبوك! لقد كنتُ أكتمها الناس حتى جئتَ بها "
"ويحسن أن نقدم إليكم مثلا يمس حياة كثير من المتعبدين اليوم بحسن نية ولكن بسوء عمل سوء العمل هو الابتداع في الدين اسمعوا القصة التالية القصة يرويها الإمام الدارمي في سننه بإسناده الصحيح " أن أبا موسى الأشعري جاء صباح يوم إلى دار عبد الله بن مسعود فوجد الناس ينتظرونه قال لهم : أخرج أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود كنيته أبو عبد الرحمن قالوا له : لا فجلس ينتظره إلى أن خرج فقال له : يا أبا عبد الرحمن لقد رأيت في المسجد آنفا شيئا أنكرته " وأرجو الانتباه إلى هذه الكلمة والتي تليها " رأيت في المسجد آنفا شيئا أنكرته ومع ذلك لم أر إلا خيرا " كيف يجتمعان؟ رآى خيرا ومع ذلك أنكره حق له ذلك لأنه رآى عبادة لم يرها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم " قال له : ماذا رأيت قال : إن عشت فستراه رأيت في المسجد أناسا حلقا حلقا وفي وسط كل حلقة منها رجل يقول لمن حوله : سبحوا كذا احمدوا كذا كبروا كذا وأمام كل رجل منهم حصى يعد بها التسبيح والتكبير والتحميد قال ابن مسعود : أفلا أنكرت عليهم؟ قال : لا انتظار أمرك أو انتظار رأيك قال أفلا أنكرت عليهم وأمرتهم أن يعدوا سيئاتهم فلن تضيع من حسناتهم عند الله شيء { أحصى كل شيء عددا } قال : لا انتظار أمرك أو انتظار رأيك عاد ابن مسعود إلى داره وخرج متلثما " هكذا " وانطلق إلى المسجد حتى لا يرى ووقف عند الحلقات فرآى ما وصف له أبو موسى فكشف عن وجهه اللثام وقال لهم ويحكم ما هذا الذي تصنعون؟ أنا عبد الله بن مسعود صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفوه قالوا يا أبا عبد الرحمن حصى حصى " يعني شغلة بسيطة " حصى نعد به التسبيح والتكبير والتحميد قال : عدوا سيئاتكم وأنا ضامن لكم ألا يضيع من حسناتكم شيء ويحكم ما أسرع هلكتكم هذه ثيابه صلى الله عليه وسلم لم تبل وهذه آنيته لم تكسر " أي إن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عهد بمفارقة الأصحاب فما آن لكم أن تحدثوا في الدين ما لم يكن معروفا في عهده عليه الصلاة والسلام فأجابوه والحق أن هذا الجواب هو لسان أكثر المتعبدين ولكن على غيروعلم أن ما عداه - أي القرآن - من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم بين علوم لا ثقة بها،وإنما هى آراء وتقليد، وبين ظنون كاذبة لا تغنى من الحق شيئا، وبين أمور صحيحة لامنفعة للقلب فيها،وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام فى إثباتها، مع قلة نفعها) . إغاثة اللهفان١/٤٤ هدى من ربهم نفوسهم طيبة ونواياهم حسنة ولكنهم لما خالفوا سنة الرسول عليه السلام ما أجروا إن لم يكن قد وزروا قالوا ماذا؟ " قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير " ترى هل تغني النية الصالحة عن العمل الصالح؟
أي أن يكون عمل الإنسان غير صالح لكن نيته صالحة يكفي؟ لا يكفي وهنا بيت القصيد { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } كما أن النية الصالحة لا تشفع للعمل الطالح فيجعله صالحا كذلك إذا كان العمل صالحا موافقا للسنة ولكن النية غير صالحة لا يفيده هذا العمل الصالح شيئا إطلاقا فلابد من اجتماع الشرطين المذكورين لما قال أولئك الناس لابن مسعود وهم صادقون فيما يقولون " والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير قال : وكم من مريد للخير لا يصيبه " هذه حقيقة مرة وكم من مريد للخير لا يصيبه أي من أراد الخير اتخذ سبيله سلك السبيل الذي يوصل إلى الخير كما قال عليه الصلاة والسلام مؤكدا لكلمة ابن مسعود بل والله أعلم والآن هذه خاطرة بدرت لي لأول مرة في حياتي والله أعلم أن ابن مسعود أخذ هذه الكلمة من حديثه الذي رواه عن الرسول عليه والسلام :( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين أصحابه يوما فخط لهم على الأرض خطا مستقيما وقرأ الآية الكريمة { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبع السبل فتفرق بكم عن سبيله } وخط خطوطا عن يمين الخط المستقيم ويساره وقال عليه السلام موضحا للخط المستقيم هذا صراط الله وهذه طرق على جنبي الطريق المستقيم وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعوا الناس إليه ) وهذا الحديث يجب أن نأخذ عبرة ما يكفي المسلم أن يعيش هكذا سبهللة فلتان في الحياة أيها الناس اتبعوا الناس لا أيها الناس اتبعوا سيد الناس أي عليكم أن تعرفوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم في أمور حياتكم الدينية كلها سواء ما كان منها عقيدة أو ما كان منها عبادة أو ما كان منها سلوكا كل ذلك يجب أن يكون معلوما عند كل مسلم يرجو النجاة يوم القيامة كما قلنا آنفا فالظاهر أن ابن مسعود لما قال لهم وكم من مريد للخير لا يصيبه ! يشير إلى هذا الحديث أنهم ما سلكوا الطريق المستقيم وإذن فهم سوف لا يصلون كما قال الشاعر القديم :
" ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس " ، فإذن الذي يرجو النجاة يجب أن يتمسك بسفينة النجاة وهي ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور قال " وكم من مريد للخير لا يصيبه إن محمدا صلى الله عليه وسلم حدثنا فقال : ( سيكون في أمتي أقوام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) " سيكون في أمتي أقوام يمرقون من الدين بسرعة غريبة جدا كما يمرق السهم من الرمية أي من الدابة المرمية العبرة من هذه القصة في خاتمتها " قال الذي حدث بهذه القصة فقد رأيت أولئك الأقوام " أي أصحاب الحلقات حلقات الذكر غير المشروع " قال فقد رأينا أولئك الأقوام يقاتلوننا يوم النهروان " وما معنا هذا الكلام؟ أصحاب الذكر غير المشروع هذه البدعة الصغيرة أودت بهم إلى البدعة الكبيرة وهي الخروج على علي بن أبي طالب الخليفة الراشد ومقاتلتهم له فما كان منه ولم يسعه إلا أن يقاتلهم حتى استأصل شأفتهم ولم ينجوا منهم إلا رجلين أو ثلاثة لذلك اقتبسنا من هذه القصة شبيه ما يذكره بعض الفقهاء " أن الذنوب الصغائر بريد الكبائر " الذنوب الصغائر إذا ما استمر عليها المسلم وأصر عليها فستكون عاقبة أمرها أن توصله إلى الذنوب الكبائر كذلك البدع الصغائر التي يستسهلها بعض الناس وبقولولك يا أخي شو فيها هي لا يفكر تماما كما قال بعض الفقهاء أيضا " لا تستصغر المعصية فإنها عظيمة حينما تتذكر عظمة الله تبارك وتعالى وأنه قد نهاك عنها فيجب أن تنتهي عنها " كذلك أيها المبتلى في بعض البدع تتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى لا تقل : شو فيها .
فيها أن الإسلام قد كمل فإذا ما قلت هذه بدعة حسنة فمعنى ذلك أنك تستدرك على هذا الرب الذي أنزل في القرآن الكريم :{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }[ سلسلة الهدى والنور شريط رقم ( ٥٣٧ )].
وفي خاتمة رسالتي هذه ؛ فليحرص طالب العلم على معرفة طريقة السلف الصالح في تعلم القرآن الكريم والعمل بما فيه فيعمل بها ويحذر طريقة أهل البدع والأهواء فيجتنبها ؛ وفضائل تدبر القرآن الكريم عديده ومزاياه فريدة
ف"ليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد والنبوات، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة، مثل القرآن. فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا"[ إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ( ١ / ٤٤ )]واعلموا رحمنا الله وإياكم بأن " لَا شَيْء أَنْفَع للقلب من قِرَاءَة الْقُرْآن بالتدبر والتفكر، فَإِنَّهُ جَامع لجمِيع منَازِل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وَهُوَ الَّذِي يُورث الْمحبَّة والشوق وَالْخَوْف والرجاء والانابة والتوكل وَالرِّضَا والتفويض والشكْر والصَّبْر" [ مفتاح دار السعادة( ١ / ١٨٧ )].
والطريقة الصحيحة لكيفية تدبر القرآن الكريم وفهمه وتامله" فَهُوَ تَحْدِيقُ نَاظِرِ الْقَلْبِ إِلَى مَعَانِيهِ، وَجَمْعُ الْفِكْرِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِنْزَالِهِ، لَا مُجَرَّدُ تِلَاوَتِهِ بِلَا فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[ مدارج السالكين( ٤٥١/١ )].
ومن اراد البعد عن الشهوات و الشهوات فعليه بتدبر القرآن الكريم وفهمه " فآيات القرآن تُحيي القلوب كما تحيا الأرض بالماء ، وتحرق خبثها وشبهاتها ،وشهواتها ،وسخائمها ، كما تُحرق النَّار ما يُلقى فيها " [ مفتاح دار السَّعادة ( ١ / ٦١ ) ] .
أيها الإخوة الكرام :
" لا شيء أنفع للقلب من قراءة القران بالتدبر؛ فإنه جامع لمنازل السائرين، وأحوال العاملين ومقامات العارفين وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، ولو علم الناس ما في تدبره لاشتغلوا به عن كل ما سواه""وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيتُ لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته" [مدارج السالكين ( ١/ ١٨٧) و( ٢ / ٥٠٢)].
وفقنا الله وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح وحسن الخاتمة؛ والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
---------------------------------------
كتبه : غازي بن عوض العرماني.