الجمعة، 6 نوفمبر 2020

《 الحذر من عبارة [ الإنسان مسير وليس مخير ] على جهة الاطلاق لتضمنها محاذير شرعية 》


        بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وعلى آله وصحبه وسلم تسليما 

أما بعد 

فيكثر ذكر عبارة ( الإنسان مسير وليس مخير ) 

وهذا خطأ يمس قضاء الله وقدره 

فالقدر سر الله 

وفي السلسلة الصحيحة للإمام الألباني رحمه الله حديث رقم ( ٣٤ ) عن الصحابي الجليل  ابن مسعود رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا ، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا ) . 

والإيمان بقضاء الله وقدره ركن من أركان الإيمان الستة 

كما في الصحيح من 

 حديثُ جبريل عليه الصلاةوالسلام  المشهور حين سأل النبي  صلى الله عليه وسلم  عن الإِيمَان، فقال  صلى الله عليه وسلم :( الإِيمَان أَنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ) 

قال الطحاوي رحمه الله:

 " وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب؛ كان من الكافرين."[ متن الطحاويه] .

و " أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى. قال علي ابن ابي طالب رضي الله عنه: القدر سر الله فلا نكشفه. 

والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد.

قال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }  وقال تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } .

وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً، ولا يرضاه ديناً.

وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا: أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فردوا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه ! ولكن صاروا: كالمستجير من الرمضاء بالنار . فإنهم هربوا من شياء فوقعوا فيما هو شر منه ! فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم - والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! ! وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل.

وأما الأدلة من الكتاب والسنة: فقد قال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وقال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } وقال تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وقال تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }  وقال تعالى: { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }  وقال تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [ من شرح الطحاويه لإبن أبي العز الحنفي رحمه الله بتصرف ومن أراد زيادة العلم في هذه المسألة فعليه الرجوع لهذا الكتاب  ]

ومن خلال السبر والتقسيم تصبح العبارات ثلاث 

هي  :


            [  الأولى ]


( الإنسان مسير وليس مخير )

وهذا قول الجبرية ومنهم الكلابية الأشاعرة ويعنون بهذه العبارة أنهم اجبروا على الفعل والقول حتى فعل المعاصي والذنوب .

              

               [ الثانية ]

( الإنسان مخير وليس مسير)

  وهذا قول القدرية نفاة القدر 

ومن هؤلاء المعطلة الجهمية كالمعتزلة ويزعمون انهم يفعلون اعمالهم وظاهر كلامهم أنهم يصفون الله بالعجز 

تعالى الله وتقدس عما يقولون علوا عظيما ..


           [ الثالثة ]

( الإنسان مسير ومخير في وقت واحد ).

وهذا قول أهل الإسلام الصحيح  أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح   

قال الله تعالى وتقدس:

{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا }

قال البغوي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: 

"إنا هديناه السبيل"، أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة، وعرفناه طريق الخير والشر. "إما شاكراً وإما كفوراً"، إما مؤمناً سعيداً وإما كافراً شقياً. وقيل: معنى الكلام الجزاء، يعني: بينا له الطريق إن شكر أو كفر".[ يعتبر تفسير البغوي عند كبار علماء الاسلام  مع تفسير الطبري وإبن كثير والسعدي من التفاسير المعتمدة الصحيحة عند أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ]

" والإنسان مخير ومسير مخير؛ لأن الله أعطاه إرادة اختياريه وأعطاه مشيئة يتصرف بها في أمور دينه ودنياه, فليس مجبراً ومقهوراً لا، بل له اختيار وله مشيئة وله إرادة كما قال سبحانه وتعالى:{ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}  وقال-سبحانه- :{ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}  وقال-سبحانه-: {  تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }  وقال-سبحانه-: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}  فالعبد له اختيار وله إرادة وله مشيئة لكن هذه الإرادة وهذه المشيئة لا تقع إلا بعد مشيئة الله عز وجل  فهو-جل وعلا- المصرف لعباده، والمدبر لشئونهم فلا يستطيعون أن يشاءوا شيئاً أو يريدوا شيئاً إلا بعد مشيئة الله له وإرادته الكونية القدرية سبحانه وتعالى ، فما يقع في العباد وما يقع منهم كله بمشيئة من الله سابقة وقدر سابق, فالأعمال, والأرزاق, والآجال, والحروب, وانتزاع الملك, وقيام الملك, وسقوط دولة, وقيام دولة كله بمشيئة الله عز وجل كما قال-جل وعلا-: {  قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }  عز وجل .

فالمقصود أنه-جل وعلا- له إرادة في عباده و مشيئة لا يتخطاها العباد, ويقال له الإرادة الكونية والمشيئة فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, ومن هذا قوله-سبحانه-: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ }  قال-تعالى-: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فالعبد له اختيار وله إرادة ولكن اختياره وإرادته تابعتان لمشيئة الله وإرادته عز وجل ، فالطاعات بقدر الله والعبد مشكور عليها ومأجور, والمعاصي بقدر الله والعبد ملوم عليها ومأزور، آثم ، والحجة قائمة، والحجة لله وحده سبحانه وتعالى:{  قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } عز وجل ،{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فهو-سبحانه-لو شاء لهداهم جميعاً ولكن له الحكمة البالغة حيث جعل لهم قسمين كافراً ومسلماً.

وكل شيء بإرادته عز وجل ومشيئته، فينبغي للمؤمن أن يعلم هذا جيداً وأن يكون على بينة في دينه، فهو مختار له إرادة وله مشيئة يستطيع يأكل يشرب ، يضارب, يتكلم ، يطيع, يعصي, يسافر, يقيم, يعطي فلان ويحرم فلان ، إلى غير هذا هو له مشيئة في هذا وله قدرة، ليس مقهوراً ولا ممنوعاً، ولكن هذه الأشياء التي تقع منه لا تقع إلا بعد سبقها من الله، بعد أن تسبق إرادة الله -جل وعلا- ومشيئته لهذا العمل :{ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}  وهو-سبحانه- الذي مسير لعباده، كما قال عز وجل : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } فهو مسير لعباده, وبيده نجاتهم وسعادتهم، وضلالهم وإهلاكهم، هو المتصرف بعباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء-سبحانه- يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، يسعد من يشاء ويشقي من يشاء، لا أحد يعترض عليه عز وجل، فينبغي لك يا عبد الله أن تكون على بصيرة في هذا الأمر, وأن تتدبر كتاب ربك, وسنة نبيك- عليه الصلاة والسلام- حتى تعلم هذا واضحاً في الآيات والأحاديث.

فالعبد مختار وله مشيئة وله إرادة, وفي نفس الأمر ليس له شيء من نفسه بل هو ملك لله عز وجل  مقدور لله سبحانه وتعالى ، ينبئه كيف يشاء عز وجل مشيئة الله نافذة وقدره السابق ماض فيه ولا حجة له في القدر السابق فالله يعلم أحوالهم ولا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى ، وهو المستحق للعبادة والمدبر لشؤونهم جل علا، وقد أعطاهم إرادة ومشيئة واختياراً يتصرفون بها "[ من كلام ابن باز رحمه الله من موقعه الرسمي بتصرف يسير ] .


وعلى المسلم :

الإيمان والتسليم والرضا والصبر بقضاء الله وقدره وفي السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 ( لو أنَّ اللهَ عذَّبَ أهلَ سماواتِهِ وأهلَ أرضِه لعذَّبَهم وهو غيرُ ظالِمٍ لهم ، ولو رحِمَهم لكانَتْ رحمَتُهُ لهم خيرًا من أعمالِهِم ، ولو أنفقْتَ مثلَ أحُدٍ ذهبًا في سبيلِ اللهِ ما قَبِلَهُ اللهُ منكَ حتى تؤمِنَ بالقدَرِ ، فتعلَمَ أنَّ ما أصابَكَ لم يكن ليُخْطِئَكَ ،وما أخطأكَ لم يكن ليُصِيبَكَ ، ولو مِتَّ على غيرِ هذا لدخَلْتَ النارَ ) 

صححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح الجامع حديث رقم ( ٥٢٤٤) من حديث الصحابيين الجليلين  أبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما 

-------------------

كتبه وأملاه الفقير إلى عفو مولاه: غازي بن عوض العرماني .

صباح يوم الجمعة ٢٠ ربيع الأول ١٤٤٢ هجري.